جورج صيدح
جورج صيدح([1])
(1893م)
مولده ونشأته: بزغ نجم هذا الشاعر الملهم الصداح بدمشق في 21 تشرين الثاني 1893م، وهو ابن المرحوم ميخائيل بن موسى صيدح، انحدرت الأسرة من أصل عربي تمركزت في دمشق منذ أجيال، ثم تفرقت فروعها إثر حوادث سنة 1860م بين سوريا ولبنان ومصر وفلسطين، وفي أوائل هذا القرن نزح أفراد منها إلى الولايات المتحدة والمكسيك وكندا.
لقد اشتهر جده موسى صيدح برخامة الصوت كأبيه وجده، وكان كالبلبل الصداح، فلصقت كنية صيدح بالأسرة لهذا السبب.
وأثناء حوادث سنة 1860م انتقل بعائلته من داره في حارة الصواف ملتجئاً إلى منزل الأمير عبد القادر الجزائري.
وقد أنجبت هذه الأسرة رجالاً لهم مكانتهم لصدقهم وعلمهم، وكان والد الشاعر المترجم عضواً في محكمتي الحقوق والجزاء بدمشق، وفي آخر أيامه كان عضواً في مجلس الإدارة على عهد الوالي ناظم باشا، وعقب وفاته انتقلت عائلته إلى القاهرة.
دراسته: تلقى دراسته في مدرستي الآسية والآباء العازاريين، وبعدها في كلية عنطورا بلبنان إلى سنة 1911م.
هجرته: شب هذا الشاعر يحفزه الإقدام، فهاجر إلى القاهرة عام 1912م وتعاطى فيها التجارة، ثم إلى باريس فأقام فيها مدة طويلة حتى سنة 1925م، ولم تقف مواهبه وعصاميته عند هذا الحد، فهاجر إلى فنزويلا عام 1927، وأقام في العاصمة كراكس، وأنشأ فيها مجلة (الأرزة) لخدمة الجالية العربية هناك، ثم إلى الأرجنتين عام 1947م، وكان موفقاً بأعماله التجارية التي بنيت على أساس من الأمانة والخلق المتين، واشتهر في الأوساط الاجتماعية كتاجر مستقيم، وشاعر ملهم، ووطني صادق نبيل، وقد برز اسمه في السنوات الأخيرة، فأخذت صحف الوطن والمهجر تنشر قصائده، وهو ينظم الشعر في اللغتين الفرنسية والإسبانية.
آثاره الأدبية: أخرج ديوان النوافل عام 1947م، وقد تجلت فيه قوميته وحنينه إلى وطنه، ورصد ريعه لمؤازرة فلسطين، وأعقبه بديوان (نبضات)، وقد طبعه في باريس عام 1953م، ويحتوي على ثلاثين قصيدة مع رسوم فنية، وكتاب بعنوان (أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية)، أصدرته جامعة الدول العربية، وقد جمع فيه محاضرات ألقاها في معهد الدراسات العربية العالمية في القاهرة عام 1956م، وله مجموعة شعرية جديدة بعنوان (ديوان صيدح)، وهو تحت الطبع.
شعره: من اطلع على إنتاجه الأدبي يطرب ويعجب ويعلم أن هذا الشاعر الموهوب يتقد ذكاء وفطنة، والأدب يظهر في حديثه وهدوئه واضطرابه، أسلوبه عربي ناصع في فن جديد، فإذا شاء القدر أن يهجر هذا البلبل الصداح مسقط رأسه ربوع الشام ليشدو فوق أرز لبنان، فإن عاطفته الصادقة لم تحجبه عن وطنه الأصلي، فقام يناجي بردى بقصيدته الرائعة وبأسلوب فياض بالحنين أوقد في قلبه نار المحبة فأنطقه بالشعر أو السحر.
«بردى»
حلمت أني قريب منك يا بردى | أبلُّ قلبي كما بل الهشيم ندى |
ونصب عيني من البلدان أبدعها | سبحان من أبدع السكان والبلدا |
دمشق أعرفها بالقبة ارتفعت، | بالمرجة انبسطت، بالشاطئ ابتردا |
بالطيب يعبق في الوادي، وأطيبه | في تربة الأرض غذاها دم الشهدا |
أمشي على الضفة الخضراء مؤتنساً | بالحور والسرو والضفاف، منفردا |
وأهبط المنحنى مستنطقاً فمه | صدى الليالي الخوالي لو يعد صدى |
تغوص في لجك الثرثار ذاكرتي | على الأغاني التي أسمعتني ولداً |
من الهدير على البطحاء مبتدرا | إلى الخرير على الحصباء متئدا |
فأنثني وربيع العمر عاودني، | كأنني لم أضعه بالنزوح سدى |
يا مورد الغوطة الفيحاء، ما بخلت | بالأطيبين وما ضاقت بمن وردا |
أهواك في ثوبك الفضي زركشه | بدر الدجى بشعاع حوله مسدا |
أهواك في صفحة للفجر ضاحكة | خط النسيم عليها شعره زبدا |
أهواك في قلبك الشفاف لاح به | ظل المآذن والأشجار مطرِدا |
أهواك كالليث وثابا ومقتحما، | كالأفعوان تلوى، كالغزال عدا |
أهواك في يقظتي، أهواك في حلمي | أهواك مقترباً، أهواك مبتعدا |
قسمت كفك ـ حبًّا بالقطين ـ إلى | أصابع سبعة فاضت عليه جدا |
ملأتُ منك يدي بعد امتلاء فمي | ولو قدرت ملأت الصدر والكبدا |
حتى أقول لدهر سامني ظمأ | في غربتي ـ لن تراني ظامئاً أبدا |
* * *
يا نهر، أثلجت صدري | بالقرب من بعد هجر |
آمنت أنك نهري | |
حلم الليالي صياح الديك نفَّره | فلا دمشق ترى عيني ولا بردى |
أفقت لم أجد الأنهار راقصة | والدوح مصطفقاً والعندليب شدا |
ما في يدي أثر الماء الزلال ولا | فمي ترطب بالسلسال منه صدى |
ولا الجنائن بالأثمار عامرة | وبالصحاب، كأزهار الربى عددا |
أصبحت كالنسر مهصور الجناح رأت | عيناه ما قرف الجرح الذي ضمدا |
أخفى عن السرب تحت الريش قرحته | فظنه السرب في التحليق قد زهدا |
حولي حطام يعاف العيش مالكه | إذ لا يرفّه نفساً منه أو جسدا |
وموطن منكر سادت زعانفه | فيه الرطانة فصحى والضلال هدى |
وأوجه كجلابيب مرقَّعة | لو استمدت لعاب الشمس لانعقدا |
وألسن تلحس الأيدي وتلدغها | كأنها علق في أخدعين مدى |
والصحب كثر إذ قرَّبتهم ثلجت | بطونهم وغلت أكبادهم حسدا |
آلى عليَّ وفائي ستر عورتهم | فما بنو وطني ـ مهما اعتدوا ـ بعدى |
ما لي احتملت سنين البين مصطبرا | واليوم لا صبر لي فيها ولا جلدا |
ضممت طيف الأماني حين زار فلم | يترك على الصدر إلا الهم والكمدا |
إن أفلت الطير من أسر فعودته | أقسى عليه من الأسر الذي عهدا |
والبرق تؤذي حسير الطرف ومضته | لولاه ما أذكر النور الذي فقدا |
بئس الحياة حياة لا نعيم بها | إلا لمسترق من نومه الرغدا |
إن كان وردك آلا واللقا حلما | يا دهر دعني غريباً ظامئاً أبداً |
* * *
يا نهر مأساة عمري | عادت وما زلت تجري |
ما أنت يا نهر نهري |
* * *