القوى المحلية في بلاد الجليل ونابلس في أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر
القـوى المحليـة فـي بلاد الجليل ونابلس في أواخـر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر
تعتبر بلاد الجليل اصطلاحاً جغرافياً وليس إدارياً وتشكل الآن المنطقة الشمالية من فلسطين. وتمتد من البحر المتوسط غرباً إلى نهر الأردن وبحيرة طبرية شرقاً. ويحدها من الشمال رأس الناقورة وجبل عامل (الحدود الفلسطينية اللبنانية الآن). أما جنوباً فيرسم حدودها خط المنخفضات المتتالية عبر وادي نهر جالود، وسهل مرج ابن عامر، ووادي نهر المقطع. وتنقسم الجليل إلى وحدتين تضاريسيتين بارزتين الجليل الأعلى، والجليل الأدنى أو الأسفل. وتمتد الحدود الفاصلة بين هاتين الوحدتين من الشرق إلى الغرب مسايرة للطريق الواصلة بين عكا وصفد على نحو شبه مستقيم. وتضم الجليل ماعرف إدارياً في العهد العثماني بسنجق صفد([1]).
أدى القضاء على فخر الدين المعني الثاني إلى تقاسم السلطة في جنوب غـرب بـلاد الشام مـن قـبل عددٍ مـن الزعامات المحليـة، ولم يستطع ورثة فخر الدين المعني أو ورثة أحمد بن طرباي توحيد السلطة تحت زعامتهم في هذه المناطق. وخلال الثلث الأول من القرن الثامن عشر كان يحكم الجليل مجموعة من الزعماء المحليين الذين تحصنوا بقلاع يعود إنشاؤها إلى الفترة الصليبية بعد أن أدخلوا عليها بعض الترميمات، فهناك عائلة حسين تحكم الجزء الغربي من الجليل الأعلى وتتخذ من قلعة جدين معقلاً لها. وقال عنهم ميخائيل الصباغ: «وكان واليها (حاكم قلعة جدين) أحمد حسين من بيت قديم شريف، وكان أهل هذا البيت ولاة هذه القلعة أباً عن جد، وكان المذكور يحكم جميع البلاد الجبلية التي حوله كالوبر (ربما قرية الوبرة الكائنة شرقي عكا) وطرشيحا وأبو سنان»([2]). وكان الشيخ نجم يشارك ابن عمه الشيخ أحمد حسين في حكم هذه المناطق([3]).
وحكم آل نافع مدينة صفد وماحولها من القرى، وقد قال عنهم ميخائيل الصباغ: «وكانت صفد حينئذ ذات قلعة حصينة وقديمة هي كرسي ناحيتها نظير عكا … وكان صاحبها محمد نافع، وله قلعة أخرى بالقرب منه (يقصد البعنة) ولاها لقريب له اسمه عبد الخالق صالح وله سحماتا … ودير القاسي»([4]).
وكان عرب الصقر أكبر وأقوى القبائل البدوية في منطقة الجليل([5]) وقال النمر: «ويُنسب عرب الصقر إلى المقداد بن الأسود الكندي الحضرمي. وهم ينقسمون إلى صقر وشاهين والمقداد، ثم انضم إليهم السردية والمهادوة، وحالفوا عباد في البلقاء... ومنازلهم في سهول بيسان وغورها»([6]). وذكر ميخائيل الصباغ أن منازلهم تقع بين جبل نابلس والناصرة وأن شيخهم في النصف الأول من القرن الثامن عشر هو رشيد جبر أمير مشايخ الصقر وعرب صفد([7]). ويبدو أن الشيخ رشيد جبر قد تولى زعامة الصقر بعد مقتل الشيخ كليب شيخ السردية، إذ قام ولاة دمشق بعد مقتل الأمير فخر الدين المعني الثاني بتولي مسؤولية إخضاع زعماء القوى المحلية في جنوب غرب بلاد الشام، واستمر ولاة دمشق بذلك خلال الثلث الأول من القرن الثامن عشر، إذ كان ظاهر العمر في بداية حكمه ولايزال يتلمس طريقه إلى القوة. واستخدم ناصوح باشا والي دمشق في الفترة بين 1120ﻫ ـ 1126م/ 1709 ـ 1714م القوة تجاه الزعماء البدو فقتل الزعيم البدوي كليب شيخ السردية، وسلخ رأسه للدولة العثمانية. وكان يحمل لقب شيخ عرب بلاد الشام وشيخ بلاد حوران. ولم يستطع طاهر كليب أن يثبت نفسه زعيماً بدل أبيه إذ تم تحدي سلطته من قبل قبائل عديدة([8]).
وحاول إسماعيل باشا العظم أثناء ولايته على دمشق (1725 ـ 1730م) الحد من سلطة بعض الزعامات المحلية في منطقة صفد، فاعترف بسلطة الشيخ جبر في محاولة منه لتنصيب الزعماء الموثوق فيهم، وإبعاد الزعامات المحلية المشكوك بولائها له، إضافة إلى سعيه لإيجاد توازن في سلطة القبائل. ولكن الشيخ جبر بمساندة بعض الزعماء المحليين أفشل خطة اسماعيل باشا العظم وعمل على توسيع نفوذه، فقام اسماعيل باشا بإبعاده هو وقبيلته إلى منطقة الخليل وأقام مكانه الشيخ طاهر بن كليب([9]). ويبدو أن الشيخ جبر عاد الى مكانه السابق بعد عزل إسماعيل باشا عن ولاية دمشق سنة 1730م وحاول استعادة سلطته ونفوذه. وكان عرب الصقر يفرضون عوائد لهم على القرى ويمارسون النهب وقطع الطرق معلليين ذلك بتجاوز ولاة صيدا لمبلغ الميري المقرر عليهم، فحاول والي صيدا (ذكره ميخائيل باسم محمد باشا ولكن لا يوجد والٍ بهذا الاسم في تلك الفترة ولعله ابراهيم باشا العظم الذي تولى على صيدا في الفترة 1732 ـ 1734)([10]) إخضاعهم والحد من نفوذهم بعد أن كثرت شكاوي الناس من سلوكهم، فأوعز إلى الشيخ ابن ماضي([11]) شيخ مشايخ نابلس بالإيقاع بهم ومحاربتهم، واستطاع ابن ماضي الحاق الهزيمة بهم عدة مرات مما دفع عرب الصقر للتحالف مع ظاهر»([12]).
واستطاع الزعماء البدو وقبائلهم السيطرة على الطرق الرئيسة للبلاد ونهب المسافرين وفرض العوائد على القرى رغم محاولات ولاة دمشق وصيدا إخضاعهم والحد من سطوتهم، فذكر «فولني» مثلاً أن آغا عكا لم تكن سلطته تتعدى حدود مدينةعكا خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر، وأن البدو هم الذين يسيطرون على المناطق الداخلية والطرق الرئيسة([13]).
وكان آل النمر متسلمين على سنجق نابلس منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر. وينتسب آل النمر إلى أسد ربيعة العدنانية، ويعتبر الأمير يوسف النمر هو مؤسس حكم آل النمر في نابلس، فقد دخل في جند اليرلية (الانكشارية المحلية) وتدرج في الرتب العسكرية فحصل على رتبة بلوكباشي بلقب آغا ثم رتبة جوربجي وأخيراً حصل على رتبة ميرالاي بلقب بك، وتسلم حكم سنجق نابلس وأدخل في حكمه البلقاء والكرك ومعان، واستمر في الحكم حتى وفاته سنة 1097ﻫ/ 1685م. وعُرفت ذريته فيما بعد بالأغوات الجوربجية ثم باليوسفيين إلى أن عادوا للإنتساب إلى النمر مع بقاء لقب آغا. وخلف الأمير يوسف في الحكم ابنه علي آغا جورجي الذي استمر في حكم سنجق نابلس حتى سنة 1150ﻫ/ 1737م([14]).
ونزل الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته سنة 1101ﻫ/ 1689م في ضيافة علي آغا، وقال النابلسي: «ونزلنا في بيت متسلم تلك البلاد النابلسية في... حضرة جناب علي جربجي... ابن الأمير يوسف كافل قلعة الكرك سابقاً»([15]). وحكم آل النمر سنجق القدس منذ سنة 1126ﻫ/ 1714م ولمدة قرن تقريباً([16]).
ويعتبر آل جرار الذين تعود أصولهم إلـى فخذ الشقران أحد بطـول قبيلة هذيـل وموطنهـم السابق فـي القسطل من البلقاء([17])، أبرز الزعامات المحلية في سنجق نابلس إذ كانوا يسيطرون على المناطق الريفيـة من السنجـق، واستطاعوا مد نفوذهم وسلطتهم على مناطق واسعة من اللجون. وكانت قلعة سانور الواقعة في الجزء الشمالي من تلال نابلس معقلهم، وقد أُنشئت للدفاع عن مصالح العائلة في المنطقة([18]). ويبدو أن آل جرار استطاعوا مد نفوذهم على المناطق التابعة للجزء الغربي من سنجق اللجون وعجلون، حيث ذكر ميخائيل الصباغ أن آل جرار تقاسموا النفوذ مع آل ماضي على مناطق الناصرة وقراها ومرج ابن عامر وحيفا وقرية الطنطورة. ووصف ميخائيل آل الجرار بأنهم أمراء النابلسية فيما أشار إلى ابن ماضي بأنه شيخ مشايخ نابلس([19]). أما آل طوقان فإن أصولهم تعود إلى عرب الموالي القاطنين في بلاد حماه. وقدم جدهم عبدالله طوقان في أوائل القرن السابع عشر الميلادي واستقر في منطقة البلقاء ثم نزل أعقابه في نابلس، وأصبحوا من الزعماء المحليين البارزين فيها([20]).